top of page
صورة الكاتبالمدرب محمد العمصي

اختيار النهج الروحاني الأفضل

اختيار السلك الروحي الأنسب والأكثر اكتمالا من بين جميع الطرق الروحية المتوفرة ليس مهمة سهلة للإنسان العادي، وهذا ما أعتقد بأنني وجدت الجزء الأكبر منه فيما يطلق عليه الروحانية الوجودية (Existential Spirituality). والروحانية الوجودية هي تقليد روحي حي بدأ به سورين كيركيجارد (1813-1855)، ويركز على الجوانب الداخلية في الإنسان بدلاً من التركيز على التكهنات حول قوى فوق طبيعية لتفسير القضايا والظواهر الروحانية. تبدأ الروحانية الوجودية بمواجهة الأزمة الوجودية الداخلية في الإنسان بدلاً من تجاهلها. والفكرة الجوهرية لهذه الأزمة الوجودية هي مشابهة لتصور كانط للمعرفة العقلية بأنها عالقة في عالم الظواهر الطبيعية (Phenomena) أما عالم الجوهر أو (Noumena) لا يمكن إدراكه بالعقل البشري، أي أن التوجه والوعي الداخلي في الروحانية الوجودية يكون نحو روح بشرية قابعة في داخلنا بدلاً من روح خارج حدود أجسادنا.

تبدأ الأزمة الوجودية الداخلية من وجهة نظر الروحانية الوجودية من الحقيقة البديهية بأننا عالقون داخل أدمغتنا، من اللحظة الأولى التي نولد فيها إلى لحظة موتنا فإن ما ندركه من العالم هو مجرد صورة داخل أدمغتنا، وأن أدمغتنا هي كل ما نملكه، ولا يمكن اختبار أي شيء خارج الدماغ لأنه مناط الإدراك والتفكير والتخيل، والعالم الذي ندركه إنما هو بالشكل والهيئة التي هو عليها بسبب طريقة عمل عقولنا وتفاعلها مع العالم الخارجي. وأن الروحانية وجميع ظواهرها إنما هي امتداد لهذا المفهوم ولا تخرج عليه. إن التفسير المادي العلمي للظواهر الروحية إن صح يضعنا بلا شك أمام تحدي وجودي خطير يتحدى جميع الادعاءات والتصورات الماورائية. وإذا قبلنا التفسير المادي العلمي للروحانية وسلّمنا بكون الروحانية ذات أصول مادية فيمكن لنا الاكتفاء بذلك دون التكهن أو الخوض في التفسيرات والقوى الفوق طبيعية، أي القيام بقفزة إيمانية (التسليم باستحالة تحصيل المعرفة الماورائية وأن كل ما يمكن لنا القيام به في ظل هذا العجز هو اتخاذ القرار بالاعتقاد به دون دليل) كما يصفها سورين كيركيجارد وهذه إحدى حلول الأزمة الوجودية الناتجة عن التفسير العلمي المادي للروحانية ، وبهذا يمكننا التركيز على اعادة تعريف المصطلحات الروحانية وتطوير التقنيات والممارسات الروحية لتتماشى مع النظرة العلمية.كما يمكن لنا التمادي اكثر وفحص الادعاءات الروحية ذاتها كوجود الروح، الحياة بعد الموت، المعنى من الوجود من الناحية الفلسفية وهذا ما سأحاول القيام به في النصوص القادمة. على أن هذا هو عمل فلسفي محض لا يؤثر في التجربة العملية كما أنه يحتاج الى ملكات تفكير وإدراك عالية. إن الروحانية الوجودية بذلك تختلف بشكل جوهري عن أنواع الروحانية الأخرى من حيث الافتقار إلى التكهنات حول الكائنات الخارقة أو الماورائية. فمعظم أشكال الروحانية الوجودية لها محتوى عقائدي قليل جداً. فالروحانية الوجودية تتساءل دائماً السؤال كيف يمكننا أن نعرف حول "الكائنات التي تقع وراء أنفسنا"؟ لكن بالتأكيد نستطيع استكشاف أعماقنا الداخلية حيث تقبع الروح والتي يمكن لحساسيتنا الداخلية الشعور بالديناميكا الخاصة بها.

سأحاول من خلال النصوص القادمة محاولة إقناع القارئ بإيجابيات الروحانية الوجودية، وبجدوى البحث العقلي والفلسفي في الموضوعات الروحانية وأعرض لبعض هذا البحث في الكثير من المفاهيم الروحانية التقليدية. إن الهدف النهائي الذي أصبوا إليه هنا هي إقناع القارئ أن الكثير من المفاهيم الروحانية التي نأخذها وكأنها من المسلمات ليست بالصلابة والوضوح الذي يبدو من النظرة الأولى، ومن خلال تحليل هذه المفاهيم فلسفياً ونقدها قد يتمكن القارئ من تكوين رأيه الخاص ومساره الروحي الذي يتناسب مع الوعي الجديد الذي سيكتسبه في ضوء هذا البحث.

من خلال دراسة الجوانب العلمية للادعاءات الميتافيزيقية في الروحانية التقليدية تبين لنا الخطأ الجوهري في الربط بين التجربة الروحية والتفسير للكون الفيزيائي، كما عرجنا على أهم العيوب الناتجة عن تطبيق التصوّر الروحاني التقليدي حرفياً في حياة المرء، من الوقوع في وهم الاتصال الكوني والمعرفة المطلقة، كما التنبؤ بنهاية العالم وغياب الجهد في الحياة. تحدثنا أيضاً عن مفهوم السعادة في الروحانية وإساءة استخدام مصطلح التنوير في الروحانية التقليدية كمصطلح لا يتعلق فقط بالمعرفة الداخلية بل في كل جوانب المعرفة البشرية وخطورة منح مثل هذه السلطة المعرفية للقادة الروحانيين. ومن خلال ذلك تبين لنا الفرق الجوهري بين الروحانية الوجودية والتقليدية، حيث الفصل الواضح في النوع الوجودي بين الطبيعة وبين النفس البشرية، وأن التنمية الروحية بصيغتها العملية ليست بحاجة إلى أي فلسفة وجودية لإعطاء نتائجها وتحقيق أهدافها ولكن مثل هذه الفلسفة مهمة لإقناع القارئ بالتحوّل من المسار الروحاني التقليدي إلى مسار جديد من الروحانية المجردة من الدوغمائية أو الأفكار غير الموثوقة، لكن ما هي الروحانية الوجودية ولماذا تعتبر أفضل من الروحانية التقليدية؟ وكيف يمكن لنا التعامل مع القضايا والمفاهيم الروحية العميقة كوجود الروح، الحياة بعد الموت والمعنى في الحياة بطريقة عقلية؟.


١٦ مشاهدة٠ تعليق

Comments


bottom of page