تاريخ تجارب الخروج من الجسد
في التراث الإسلامي
يؤمن المسلمون بوجود عوالم متعددة خارج العالم المادي، بما في ذلك العالم الروحي، عام الجن وعالم الملائكة، ولكنها مترابطة ومتداخلة، ويُعتقد أن كل الأشياء في هذه العوالم موجودة وتعمل بإرادة الله وتوجيهه.
وفقًا للعقيدة الإسلامية، هناك حجاب أو حاجز بين هذه العوالم والعالم المادي، ويقال إن هذا الحجاب يحد من إدراك وفهم البشر لهذه العوالم. ومع ذلك، يُعتقد أن بعض الأفراد، مثل الأنبياء والأولياء الصالحين، قادرون على اختراق هذا الحجاب واختبار هذه العوالم الأخرى مباشرة بإرادة الله. يؤمن المتصوفة أن هؤلاء الأفراد لديهم صلة خاصة بالوعي الإلهي والروحي الأكبر، مما يسمح لهم بتجربة العالم الروحي بطريقة أكثر مباشرة وعمقًا.
لذا تُقبل تجارب الخروج من الجسد في بعض المذاهب والتقاليد الإسلامية (بالأخص الصوفية) كطريقة للوصول إلى مستوى روحي أعلى وكوسيلة لاكتساب البصيرة والمعرفة، ويتم قبول هذه التجارب أيضًا كطريقة للتواصل مع الله، ويستخدم بعض ممارسي الصوفية هذه التجارب للوصول إلى مستوى أعلى من الفهم الروحي. في بعض الحالات، يُنظر إلى هذه التجارب على أنها شكل من أشكال العبادة. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد البعض أنه يمكن استخدام تجارب الخروج من الجسد للوصول إلى فهم أكبر للحياة الأخرة والتفاعل مع الملائكة والكائنات الروحية الأخرى.
ولكن وفقًا لبعض العلماء المسلمين والقادة الصوفيين، لا ينبغي ممارسة الإسقاط النجمي إلا بإذن الله وتوجيهاته، حتى لا نخاطر بمواجهة الأرواح الشريرة، كما أنهم لا يعتقدون بأنّ جميع أشكال السفر خارج الجسد متاحة للجميع، فبعض النطاقات في العالم الروحي محجوزة للأنبياء، ولكن حسب ابن العربي[1] أن هناك آلاف المحطات الروحية (للسفر) في عوالم أخرى لغير الأنبياء وحتى لجميع البشر، والمسلمون يؤمنون أنّ الله يتوفى الأنفس حين موتها، وهناك دلائل واضحة في القرآن والسنة تدل على أن الروح تؤخذ في النوم، وأن النوم نوع من الموت، (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[2]، في تفسير الطبري[3] أنّ المقصود بالآية أنّ الله يجمع بين أرواح الأحياء والأموات فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويُرسل الأخرى إلى أجسادها. لذا يسمى النوم لدى المسلمين الموتة الصغرى، فالروح تخرج من البدن خلاله ثم تعود فيه عند الاستيقاظ من النوم، وفي نهاية الآية السابقة هناك تأكيد على أهمية هذا المعنى بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) حيث إنّ في قبض الله نفس النائم والميت وتقرير مصائرهم عبرة وعظة لمن يتفكر ويتدبر، وبياناً بأنّ الله يحيي من يشاء ويميت من يشاء من خلقه.
وفي السنة النبوية الشريفة يظهر لنا أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يستشعر هذا المعنى العظيم عند نومه، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: باسمك ربِّ وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين)[4]. كما جاء عن البراء –رضي الله عنه- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أخذ مضجعه قال «اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت). وإذا استيقظ قال (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)[5].
التجربة الشبيهة بتجارب الخروج من الجسد التي اشتهر بها التاريخ الإسلامي هي تجربة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أثناء الإسراء[6] والمعراج[7]. كان هذا الحدث نقطة تحول في الرسالة النبوية. خلال هذه الرحلة، في غضون فترة قصيرة من الزمن، ذكر النبي أنه ذهب إلى القدس، صعد إلى مستويات مختلفة من السماء، التقى بالعديد من الأنبياء (عليهم السلام) في الحقب السابقة، بما في ذلك إبراهيم وعيسى وموسى (عليهم السلام)، وعندما عُرج بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء السادسة (في بعض الروايات السابعة) وكان معه جبريل، توقف الوحي الأمين عن الصعود وأكمل رسول الله حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وأُعطي في ذلك الوقت الأمر بصلاة المسلمين، وأمُر بتعليمها لقومه.
استخدم الكثيرون في المجتمع المكي في عصره هذه القصة كوسيلة للسخرية من النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصفوا قصته بأنها منافية للعقل، إلا أن أتباع الإسلام الحقيقيين، وأبرزهم أبو بكر الصديق، قبلوا هذه التجربة كحدث معجزة وعلامة أخرى من الله على صدق الرسالة.
ولأن هذا الحدث جزء لا يتجزأ من الرسالة الإسلامية ولأن العديد من علماء المسلمين يعتقدون أنه حدث في الجسد والروح معاً بدلاً من أن يكون رحلة للروح خارج الجسد، فأنا لا أعتبرها تجربة خروج من الجسد، بل أعتبرها حدثًاً معجزاً، خارج نطاق دراستنا لتجارب الخروج من الجسد الأكثر شيوعًا.
تركز الصوفية، باعتبارها فرعًا روحياً من الإسلام، في المقام الأول على تجربة الفرد الشخصية مع الله، والتحول الداخلي، والسعي نحو طريق الاستيقاظ الروحي، ورغم كون تجارب الخروج من الجسد ليست جانبًا مركزيًا في الصوفية، كما أنّ الصوفيين قد لا يشيرون على وجه التحديد إلى تجاربهم على أنها تجارب خروج من الجسد، إلا أن الصوفيين غالبًا ما ينخرطون في ممارسات مثل التأمل والذكر، وغيرها من أشكال الممارسات التي يمكن أن تؤدي إلى حالات متغيرة من الوعي، كما أنّ هناك روايات عن الرحلات الروحية والرؤى الصوفية والحالات المتعالية التي تشترك في بعض أوجه التشابه مع تلك التجارب، فيما يلي بعض القصص من تاريخ الصوفية التي قد تشبه الإسقاط النجمي أو تجارب الخروج من الجسد:
على سبيل المثال في كتابه الفتوحات المكيّة وهو عمل رئيسي للباحث الإسلامي والمتصوّف ابن عربي[8] (المعروف أيضاً بالشيخ الأكبر)، يناقش ابن عربي الإسقاط النجمي كوسيلة لتحقيق التنوير الروحي، ويذكر أنه من الممكن فصل الروح عن الجسد، وأن الروح يمكن أن تنتقل بعد ذلك إلى أماكن بعيدة وحتى أبعاد أخرى، يوضح ابن عربي كذلك أن الروح يمكن أن تتفاعل حتى مع الكائنات الروحية الأخرى أثناء وجودها في هذه الحالة. كما يحذر من أخطار الإسقاط النجمي، واصفا إياه بأنه ممارسة صعبة وخطيرة. في إحدى تجاربه[9] خارج الجسد يصف ابن العربي سافر إلى السماء وواجه سلسلة من الكائنات الروحية. وبحسب روايته، فقد اختبر رؤية انتقل فيها عبر السماء وواجه كيانات روحية مختلفة، بما في ذلك الملائكة والأنبياء. كما يصف لقاءً مع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي قال إنه أعطاه التوجيه والنصح.
رحلة أبي يزيد البَسْطامي عبر السماوات: يقال إن أبا يزيد البَسْطامي، صوفي فارسي من القرن التاسع عشر، شهد رحلة روحية عميقة اجتاز فيها السماوات السبع وتحدث مع الملائكة والكائنات الإلهية. وبلغت التجربة ذروتها في حالة من النشوة بالاتحاد مع الله، وبعد ذلك عاد إلى جسده[10].
طاسين السراج للحسين بن منصور الحلاج: منصور الحلاج، صوفي وشاعر ومعلم فارسي من القرن التاسع، كان لديه رؤية وجد نفسه فيها في حضرة العرش الإلهي. خلال هذه التجربة، ادعى أنه شاهد حقيقة الوحدة الإلهية، مما دفعه إلى النطق بالعبارة المثيرة للجدل "أنا الحق". تشترك هذه التجربة الصوفية في أوجه التشابه مع الإسقاط النجمي بمعنى تجاوز الجسد المادي لمواجهة الحقائق الإلهية[11].
روزبهان البقلي الشيرازي: وصف روزبيهان بقلي، صوفي وشاعر فارسي صوفي من القرن الثاني عشر، في كتابه "شرح الشطحات" تجربة صوفية صعد فيها سلمًا روحيًا إلى الوجود الإلهي، على كل درجة من السلم، واجه كائنًا ملائكيًا أو نبيًا مختلفًا، ووصل في النهاية إلى الحضرة الإلهية، كلّما صعد رزبيهان السلم، تعمقت فهمه للإله وحالته الروحية، يرمز هذا الصعود إلى عملية تطهير وتحول روحي يجب أن يمر بها الطالب للوصول إلى الوحدة مع الله، من خلال لقاءاته مع الكائنات السماوية المختلفة، اكتسب رزبيهان فهمًا لطبيعة الإله والترابط بين الخلق والهدف النهائي للمسار الروحي. تذكرنا قصة الصعود الروحي هذه بقصص الإسقاط النجمي بمعنى ترك الجسد المادي والسفر عبر العوالم الروحية[12].
في حين أن هذه القصص من التاريخ الصوفي لا تذكر الإسقاط النجمي صراحةً، إلا أنها تصف الرحلات الروحية والرؤى الصوفية والحالات التجاوزية التي تحمل بعض التشابه مع مفهوم تجارب الخروج من الجسد. أيضاً من المهم هنا أن نلاحظ أن التركيز الأساسي للصوفية ليس حث تجارب صوفية معينة مثل تجارب الخروج من الجسد، بل على تنمية علاقة عميقة وشخصية مع الله، مما يؤدي إلى النمو الروحي والتحول. في حين أن بعض الصوفيين قد يكون لديهم تجارب تشبه تجارب الخروج من الجسد كنتاج ثانوي لممارساتهم الروحية، فإن هذه التجارب ليست الهدف النهائي للتعاليم الصوفية.
في العصر الحديث هناك بحث أكاديمي محدود حول موضوع تجارب الخروج من الجسد والإسقاط النجمي من المنظور الإسلامي، ولكن من المهم التوضيح بأن هذه التجارب في المجتمعات الإسلامية (كما الحال مع المجتمعات الأخرى) ليست حكراً على المتصوفين والقادة الدينيين، بل يصادفها أيضاً الأفراد العاديون في المجتمع، وخاصة في سياقات تجارب الاقتراب من الموت، على سبيل المثال يذكر د. أمجد علي الجفري أحد هذه التجارب التي مر بها[13]، خلال تجربة اقتراب من الموت، في موقع يدعى دارا راتي جالي، كشمير- باكستان، أثناء رحلة استكشافية جبلية، حيث حدث انقلاب أرضي ودُفن الجفري تحت أطنان من التراب، بعد إنقاذه ذكر الجفري: " شعرت بأنني أتطاير وأخرج من جسدي من كل مكان. كان حولي عدة كائنات من الضوء ولم أكن على معرفة بأي منها... اعتقدت أنها إما علي بن طالب أو أي شخص آخر يمثله. هؤلاء الأفراد كانوا يتواصلون معي من خلال التخاطر. كانوا يقولون لي ألا أقلق وأن أهدأ.... دخلت في حالة من السلام التام."، خلال التجربة أيضاً زعم د. أمجد أنه تذكر أسماء الأفراد في فريق الإنقاذ الذين كانوا قلقين عليه، وكان قد سمع أيضاً الحوار بينهم بما في ذلك محاولة أحد ضباط البحث في المجموعة إقناع المشرف على عملية الإنقاذ بالحفر في مكان مختلف، وغيرها من التفاصيل الدقيقة.
أيضاً في نفس السياق ذكر السياسي الفلسطيني المعروف صائب عريقات تجربة اقتراب من الموت[14]، خلال توقف قلبه في عملية زرع للرئة، وقال إن الأطباء أبلغوه بتوقف قلبه لنحو ثلاث دقائق وعشرين ثانية، وخلال التجربة قال عريقات أنه "رأى نفسه (وليس جسده) وهو يمشي بسرعة الريح.. ولكن ليس في السماء، بل في فراغ.. فراغ هائل.. قد يكون نفقا، ولكنه لم ير أبعاد هذا النفق"، كما ذكر أنه "التقى أشخاصاً قدم لهم المساعدة في الماضي وأنهم أشاروا إليه قبل أن يقفل عائدا".
من الصعب تحديد مدى شيوع تجارب الخروج من الجسد بين المسلمين مقارنة بالعالم الغربي، لغياب الجهود البحثية الكافية، ولأنّ هذه التجارب ذاتية للغاية وليس من السهل دائمًا تحديدها أو الإبلاغ عنها، بالإضافة إلى ذلك العديد من الأفراد قد يشعرون بالحرج الشديد من سرد قصصهم في هذه التجارب أو أنهم يخشون أنها تتعارض مع معتقداتهم الدينية لغياب تبني السلطات الدينية لها.
[1] كان ابن عربي (محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي) عالمًا إسلاميًا وصوفيًا عاش في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كان كاتبًا غزير الإنتاج ويُنظر إليه على نطاق واسع من قبل أتباعه على أنه أحد أكثر علماء المسلمين تأثيرًا في التاريخ. اشتهر بأعماله الفتوحات المكية وفصوص الحكم.
[2] (الآية ٤٢ من سورة الزمر).
[3] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura39-aya42.html
[4] رواه البخاري.
[5] رواه مسلم
[6] هو إذهاب الله نبيه محمداً (صلى الله عليه وسلم) من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بمدينة القدس في جزء من الليل، ثم رجوعه من ليلته.
[7] هو إصعاده صلّى الله عليه وسلّم من بيت المقدس إلى السماوات السبع، وما فوق السبع، حيث فرضت الصلوات الخمس، ثم رجوعه إلى بيت المقدس في جزء من الليل.
[8] كان ابن عربي، المعروف أيضًا باسم محي الدين بن العربي أو أبو بكر محمد بن علي بن عربي، عالمًا وصوفيًا وشاعرًا وفيلسوفًا أندلسيًا بارزًا في القرن الثاني عشر. ولد ابن عربي في 28 يوليو 1165 في مدينة مرسية بالأندلس (اسبانيا حالياً)، ويعتبر أحد أكثر الصوفية والمفكرين تأثيراً في التاريخ الإسلامي. تغطي كتاباته الواسعة جوانب مختلفة من اللاهوت والفلسفة والتصوف والروحانية الإسلامية.
[9] Futuhat Al Makkiya [The Meccan Revelations] (Ibn al-Arabi, 1202/ 2002, 1202/2004).
[10] وضحى, ي. (2006b). القضايا النقدية في النثر الصوفي: حتى القرن السابع الهجري. الفصل الرابع. (رؤيا أبي يزيد) لأبي يزيد البَسْطامي
[11] وضحى, ي. (2006b). القضايا النقدية في النثر الصوفي: حتى القرن السابع الهجري. الفصل الرابع. طاسين السراج للحسين بن منصور الحلاج
[12] Schimmel, A. (2011). Mystical Dimensions of Islam. Univ of North Carolina Press.
[13] Jaffri, A. A. (2001, June). Al Balagh.
[14] BBC News عربي. (2019, June 10). صائب عريقات يتحدث عن تجربة موته لـ 3 دقائق و20 ثانية ورواد مواقع التواصل الاجتماعي منقسمون. BBC News عربي. https://www.bbc.com/arabic/trending-48570296
Comments